
دبي – الدكتور صالح المخدوم
في قلب دبي، وبين جدران مركز حمدان للإبداع والابتكار، يجلس إبراهيم العبيدلي، رجل تخطى حدود التقليد، وصاغ تجربته الممتدة لأكثر من ربع قرن في عالم البرمجيات، الأقمار الاصطناعية، ونظم البيانات، ليؤسس شركته «أرضية الإبداع». حين يتحدث العبيدلي، يختلط العلمي بالوجداني؛ فلا غرابة أن يكون «مسبار الأمل» – مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ – هو الشرارة التي أوقدت في داخله رؤية تتجاوز عالم الفضاء لتلامس الأرض، وخاصةً قطاع العقارات.
يقول العبيدلي في مقابلة خاصة مع \"مساحات\":\" مسبار الأمل لم يكن مجرد رحلة إلى المريخ، بل كان رسالة أن المستحيل كلمة لا مكان لها في قاموسنا. ومن هذا الإلهام بدأت رحلة أرضية الإبداع، حيث نسعى لتطويع التكنولوجيا لخدمة الإنسان، وجعل حياته أسهل وأكثر ذكاءً\".
خمسة محاور.. وأفق بلا حدود
وضع العبيدلي لشركته خمس ركائز أساسية، يرى فيها البوصلة التي ستوجّه أعمال «أرضية الإبداع» نحو المستقبل:
• الروبوتات المتقدمة وربطها بالأنظمة المؤسسية
• الألعاب الإلكترونية ثنائية وثلاثية الأبعاد والواقع المعزز
• الأنظمة المؤسسية ونظم المعلومات الجغرافية
• البحث والتطوير في الذكاء الاصطناعي
• التدريب ونقل المعرفة
لكن حين سألناه عن ارتباط هذه المحاور بالعقارات، انحنى العبيدلي إلى الأمام مبتسمًا وقال:\" العقار لم يعد جدرانًا وأسقفًا فقط، بل أصبح بيئة معيشية معقدة تحتاج إلى حلول ذكية. وهنا تتجلى أهمية المحورين الثاني والثالث تحديدًا، فهما القادران على تحويل تجربة العقار من بيع وشراء إلى رحلة غامرة يعيشها العميل قبل أن يوقع عقدًا واحدًا\".
العقارات في قلب العالم الافتراضي
في حديثه عن المحور الثاني المتعلق بالألعاب والواقع الافتراضي، يوضح العبيدلي أن هذه التكنولوجيا باتت تمثل جسرًا بين الخيال والواقع في القطاع العقاري:\" حين يزور العميل مشروعًا عقاريًا عبر تقنية الواقع الافتراضي، فهو لا يشاهد جدرانًا على شاشة؛ بل يعيش التفاصيل، يرى الضوء يتسلل من النوافذ، يتجول في الممرات، بل وحتى يسمع صوت المياه في النافورة الخارجية. هذه ليست دعاية بصرية، إنها تجربة نفسية كاملة تخلق ارتباطًا وجدانيًا مع المكان\".
ويضيف:\" لقد طورنا ألعابًا تعليمية وترفيهية ثلاثية الأبعاد لمحاكاة الحياة على المريخ، فلماذا لا ننقل هذه التقنية إلى العقارات؟ نستطيع أن نصمم بيئات سكنية أو تجارية يعيشها المستثمر أو العائلة كما لو كانوا يسكنونها بالفعل. هذا التحول لا يسرّع فقط من عملية البيع، بل يضمن أن يكون القرار الاستثماري مبنيًا على تجربة واقعية وليس مجرد رسومات هندسية\".
نظم المعلومات الجغرافية.. بوصلـة المستثمر
أما المحور الثالث، المتعلق بالأنظمة المؤسسية ونظم المعلومات الجغرافية (GIS)، فيراه العبيدلي أداة لا غنى عنها للمطورين العقاريين والحكومات على حد سواء. يقول:\" نظم المعلومات الجغرافية هي العقل الخفي للعقار. من خلالها يمكننا تحليل أنماط النمو السكاني، شبكات الطرق، المدارس، المراكز الصحية، وحتى حركة المرور اليومية. حين ندمج هذه البيانات مع أنظمة ذكية، فإننا نقدم للمستثمر خريطة كاملة لما سيصبح عليه المشروع خلال 10 أو 20 عامًا\".
وتابع:\" العقار استثمار طويل الأجل، وأخطر ما فيه هو الغموض. نظم المعلومات الجغرافية تكسر هذا الغموض، وتقدم شفافية غير مسبوقة. فالمستثمر الذي يشتري قطعة أرض في ضواحي الدوحة أو دبي، يمكنه أن يرى كيف ستتطور تلك المنطقة، وما هي الفرص والمخاطر، قبل أن يضع درهمًا واحدًا\".
الروبوتات.. من المزارع إلى الأبراج الذكية
لم يخفِ العبيدلي إعجابه بمشروعه المبتكر «الروبوت المزارع»، الذي يقوم بالبذر، وسقي الماء، وتحليل التربة. لكنه يؤكد أن هذه التكنولوجيا لا تتوقف عند حدود الزراعة:\" الروبوت المزارع مجرد بداية. تخيلوا نفس التقنية داخل مشروع عقاري ضخم، حيث الروبوتات مسؤولة عن صيانة المباني، تنظيف الواجهات الزجاجية، مراقبة استهلاك الطاقة، وحتى التفاعل مع السكان عبر منصات ذكية. نحن نعيد تعريف معنى الراحة في الحياة اليومية\".
ويضيف بلغة حاسمة:\" من لا يدخل الذكاء الاصطناعي في العقار اليوم، سيجد نفسه خارج السوق غدًا. المستقبل ملك للعقارات الذكية التي تدير نفسها بنفسها، من الأمن إلى استهلاك الطاقة إلى الخدمات اللوجستية\".
العقارات كمنصات للبحث والتطوير
يلفت العبيدلي إلى أن شركته لا ترى العقارات فقط كمبانٍ، بل كمختبرات حيّة لتجربة أحدث الابتكارات:\" حين نطلق مشروعًا عقاريًا، فإننا نراه فرصة لتجربة حلول الذكاء الاصطناعي في الطاقة المتجددة، أو اختبار أنظمة المحاكاة في إدارة الأزمات والكوارث. العقار هنا يصبح منصة علمية بقدر ما هو منتج استثماري\".
ويتابع قائلاً:\" لقد تعلمت من عملي مع الأقمار الاصطناعية أن البيانات هي الذهب الجديد. والآن أطبق هذا المبدأ في العقارات: المبنى الذكي ليس فقط جدرانًا متصلة بالإنترنت، بل هو مصنع بيانات ينتج معلومات حول السلوك البشري، كفاءة الاستهلاك، وحركة المجتمع. هذه البيانات إذا أُديرت بعقلانية، يمكن أن تغيّر الاقتصاد بأكمله\".
\"بوابة المبدعين\".. منصات رقمية تخدم العقار أيضًا
ومن بين المبادرات التي يعمل عليها العبيدلي، منصة «بوابة المبدعين»، التي وصفها بأنها «ملتقى العقول». ويضيف:\" نحن نبني منصة تجمع المبدعين وتعرض مشروعاتهم أمام المجتمع. لكنني أرى أن هذه المنصة ستخدم قطاع العقارات أيضًا، إذ يمكن للمطورين أن يعرضوا مشاريعهم فيها، ليس كصور جامدة، بل كتجارب تفاعلية يشارك الجمهور في صياغتها. بهذا نعيد تعريف العلاقة بين المطور والعميل، حيث يصبح الأخير شريكًا في التصميم والقرار\".
العقارات والذكاء الاصطناعي.. تكامل لا مفر منه
وعن مستقبل العلاقة بين العقار والتكنولوجيا، يختصر العبيدلي رؤيته في عبارة لافتة:\" حين نربط الذكاء الاصطناعي بالعقار، نحن لا نبيع وحدات سكنية فقط.. نحن نبيع مستقبلًا يعيش فيه الإنسان بانسجام مع التكنولوجيا\".
ويضيف موضحًا:\" المباني الذكية ستكون هي القاعدة، وليست الاستثناء. لكن الأهم من ذلك أن نزرع في هذه المباني روح الابتكار. تمامًا كما ألهمنا مسبار الأمل لنحلم أبعد من حدود الأرض، يجب أن تلهمنا العقارات الذكية لنصمم حياة أبعد من حدود المألوف\".
العقارات العربية.. فرصة للريادة العالمية
يؤمن العبيدلي أن المنطقة العربية أمامها فرصة استثنائية لتكون مركزًا عالميًا للعقارات الذكية:\" لدينا مدن جديدة تُبنى من الصفر، مثل لوسيل ونيوم، وهذه فرصة ذهبية لإدخال أحدث التقنيات دون قيود الماضي. إذا أحسنا استغلالها، سننتقل من موقع المستهلك إلى موقع المصدر للتكنولوجيا العقارية\".
ويختم قائلاً:\" لقد كان مسبار الأمل بالنسبة لي رسالة أن كل شيء ممكن. واليوم أقول إن العقار العربي يمكن أن يصبح منصة للتفوق العالمي إذا جمع بين الذكاء الاصطناعي، نظم المعلومات الجغرافية، والواقع الافتراضي. نحن لا نبني منازل فقط، بل نبني مستقبلًا يليق بأبنائنا
Comments
No comments yet. Be the first to comment!